فصل: تفسير الآية رقم (169):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (165- 168):

{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)}
وقوله تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به} أي فلما تركوا ما وعظوا به {أنجينا الذين ينهون عن السوء} وهم الفرقة الناهية {وأخذنا الذين ظلموا} يعني الفرقة المعتدية العاصية {بعذاب بئيس} أي شديد وجميع من البأس وهو الشدة {بما كانوا يفسقون} يعني أخذناهم بالعذاب بسبب فسقهم واعتدائهم وخروجهم عن طاعتنا. روى عكرمة عن ابن عباس قال: أسمع الله يقول أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس فلا أدر ما فعلت الفرقة الساكتة وجعل يبكي قال عكرمة: فقلت جعلني الله فداك، ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه، وقالوا لم تعظون قوماً الله مهلكهم، وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل أهلكتهم قال فأعجبه قولي ورضي به وأمر لي ببردين فكسانيهما وقال: نجت الساكتة وقال يمان بن رباب: نجت الطائفتان الذين قالوا لم تعظون والذين قالوا معذرة وأهلك الله الذين أخذوا الحيتان وهذا قول الحسن، وقال ابن زيد: نجت الناهية وهلكت الفرقتان وهذه الآية أشد آية في ترك النهي عن المنكر وقوله تعالى: {فلما عتوا عن ما نهوا عنه} قول ابن عباس: أبوا أن يرجعوا عن المعصية والعتو عبارة عن الإباء والعصيان والمعنى فلما عتوا عما نهوا يعني عن ترك ما نهوا عنه وتمردوا في العصيان من اعتدائهم في السبت واستحلالهم ما حرم الله عليهم من صيد السمك في يوم السبت وأكله {قلنا لهم كونوا قردة خاسئين} يعني صاغرين مبعدين من كل خير.
قال قتادة: لما عتوا عما نهوا عنه مسخهم الله فصيرهم قردة تتعاوى بعد ما كانوا رجالاً ونساء. وقال ابن عباس: جعل الله منهم القردة والخنازير فزعم أن شبان القوم صاروا قردة وأن المشيخة صاروا خنازير، قيل إنهم بقوا ثلاثة أيام ينظر الناس إليهم ثم هلكوا جميعاً.
قوله تعالى: {وإذ تأذن ربك} الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم ومعنى تأذن أذن والأذن الإعلام يعني أعلم ربك وقيل معناه قال ربك، وقيل: حكم ربك وقيل آلى ربك بمعنى أقسم أجزما ربك {ليبعثن عليهم} اللام في قوله ليبعثن جواب القسم لأن قوله وإذ تأذن ربك جارٍ مجرى القسم لكونه وجواب القسم ليبعثن عليهم واختلفوا في الضمير في عليهم إلى من يرجع فقيل يقتضي أن يكون راجعاً إلى قوله فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين لكن قدعلم أن الذين مسخوا لم يبق منهم أحد فيحتمل أن يكون المراد الذين بقوا منهم فألحق الذل بهم وقيل بأن المراد سائر اليهود من بعدهم لأن الذين بقوا من أهل القرية كانوا صالحين والذي بعثه الله على اليهود هو بختنصر وسخاريب وملوك الروم فساموهم سوء العذاب.
وقيل: المراد بقوله ليبعثن عليهم اليهود الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي بعثه الله عليهم وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته فألزم من لم يسلم منهم الصَّغار والذلة والهوان والجزية لازمة لليهود إلى يوم القيامة وأورد على هذا بأن في آخر الزمان يكون لهم عزة وذلك عند خروج الدجال لأن اليهود أتباعه وأشياعه وأجيب عنه بأن ذلك العز الذي يحصل لهم في نفسه غاية الذلة لأنهم يدعون إلهية الدجال فيزدادون كفراً على كفرهم فإذا هلك الدجال أهلكهم المسلمون وقتلوهم جميعاً فذلك هو الذلة والصغار المشار إليه بقوله تعالى ليبعثن عليهم {إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} وهذا نص في أن العذاب إنما يحصل لهم في الدنيا مستمراً عليهم إلى يوم القيامة ولهذا فسر هذا العذاب بالإهانة والذلة وأخذ الجزية منهم فإذا أفضوا إلى الآخرة؛ كان عذابهم أشد وأعظم وهو قوله تعالى: {إن ربك لسريع العقاب} يعني لمن أقام على الكفر ففيه دليل على أنه يجمع لهم مع ذلة الدنيا عذاب الآخرة فيكون العذاب مستمراً عليهم في الدنيا والآخرة، ثم ختم الآية بقوله تعالى: {وإنه لغفور رحيم} يعني لمن آمن منهم ورجع عن الكفر واليهودية ودخل في دين الإسلام.
قوله تعالى: {وقطعناهم في الأرض أمماً} يعني وفرقنا بني إسرائيل في الأرض جماعات متفرقة فلا تجد بلداً وفيه من اليهود طائفة وجماعة، قال ابن عباس: كل أرض يدخلها قوم من اليهود {منهم الصالحون} يعني من هؤلاء الذين وصفهم الله من بني إسرائيل صالحون وهم من آمن بالله ورسوله وثبت منهم على دينه قبل مبعث عيسى عليه الصلاة والسلام وإنما وصفهم بذلك قبل ارتدادهم عن دينهم وكفرهم بربهم ذكره الطبري ولم يذكر غيره، وروى البغوي وغيره من المفسرين عن ابن عباس ومجاهد: إن المراد بالصالحين الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود وآمنوا به والصحيح ما ذكره الطبري يدل عليه قوله بعد فخلف من بعدهم خلف من بعدهم خلف والخلف إنما كان بعد هؤلاء الذين وصفهم بالصلاح من بني إسرائيل.
وقوله تعالى: {ومنهم دون ذلك} يعني الذين كفروا من بني إسرائيل وبدلوا وغيروا {وبلوناهم} يعني جميعاً الصالح وغيره وهي بلوى اختبار وامتحان {بالحسنات} يعني الخصب والعافية {والسيئات} يعني الجدب والشدة {لعلهم يرجعون} يعني لكي يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا إليه. قال أهل المعاني: كل واحدة من الحسنات والسيئات إذا فسرت بالنعم والشدة تدعو إلى طاعة الله تعالى أما النعمة فيزداد عليها شكراً فيرغب في الطاعة وأما الشدة فيخاف سوء عاقبتها فيرهب منها.

.تفسير الآية رقم (169):

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)}
قوله تعالى: {فخلف من بعدهم} يعني من بعد هؤلاء الذين وصفناهم قوله تعالى: {خلف} يعني خلف سوء يعني حدث من بعدهم وتبدل منهم بدل سوء يقال منه هو خلّف صدق بفتح اللام وخلف سوء بسكونها فأكثر ما يقال في المدح بفتح اللام وفي الذم بسكونها وقد تحرك في الذم وتسكن في المدح قال حسان بن ثابت في المدح:
لنا القدم الأولى إليك وخلْفنا ** لأولنا في طاعة الله تابع

فسكن اللام في قوله وخلفنا وهو يريد المدح وقال لبيد في الذم:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ** وبقيت في خَلَف كجلد الأجرب

ففتح اللام وهو يريد الذم وأصله من الفساد. يقال: خلف اللبن إذا فسد وتغير في السقاء ويقال للرديء من القول: خلف وخلف الشيء تغيره، ومنه خلوف فم الصائم والمعنى جاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم خلف والخلف القرن الذي يجيء بعد قرن كان قبله {ورثوا الكتاب} يعني انتقل إليهم الكتاب عن آبائهم والمراد بالكتاب التوراة {يأخذون عرَض هذا الأدنى} العرض بفتح الراء جميع متاع الدنيا كما يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، والعرْض بسكون الراء جميع المال سوى الدراهم والدنانير والمعنى أنهم كانوا يأخذون الرشا في الأحكام على تبديل الكلام وتغييره وذلك الذي يأخذونه من حطام الدنيا هو الشيء التافه الخسيس الحقير لأن الدنيا بأسرها فانية حقيرة والراغب فيها أحقر منها فاليهود ورثوا التوراة وعلموا ما فيها وضيعوا العمل بما فيها وتركوه وأخذوا الرشا في الأحكام ويعلمون أنها حرام ثم إنهم مع إقدامهم على هذا الذنب العظيم يصرون عليه {ويقولون سيغفر لنا} يعني ذنوبنا فيتمنون على الله الأماني الباطلة الكاذبة عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» أخرجه الترمذي وقال في قوله عليه الصلاة والسلام دان نفسه يعني حاسبها في الدنيا قبل أن يحاسَب يوم القيامة وموضع الاستشهاد من الحديث على الآية، قوله وتمنى على الله الأماني لأن اليهود كانوا يقدمون على الذنوب ويقولون سيغفر لنا وهذا هو التمني بعينه قوله تعالى: {وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} وهذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وإصرارهم على الذنوب، والمعنى أنهم إذا أتاهم شيء من الدنيا أخذوه حلالاً كان أو حراماً ويتمنون على الله المغفرة وإن وجدوا من الغد مثله أخذوه.
قال السدي: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضياً إلا ارتشى في الحكم فيقال له ما بالك ترتشي فيقول: سيغفر لي فيطعن عليه الآخرون فإذا مات أو نزع من الحكم وجعل مكانه آخر فمن كان يطعن عليه ارتشى أيضاً يقول الله عز وجل وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب} يعني ألم يؤخذ على هؤلاء المرتشين في أحكامهم العهود والمواثيق في الكتاب وهو التوراة {أن لا يقولوا على الله إلا الحق} يعني إنّا أخذنا عليهم الميثاق على أن يقولوا الحق فقالوا الباطل وخالفوا أمر الله وهو قولهم سيغفر لنا والمراد من هذا التوبيخ والتقريع لليهود في ادائهم على الله الباطل قال ابن عباس: هو ما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها {ودرسوا ما فيه} يعني ما في الكتاب والمعنى أنهم ذاكرون لما أخذ عليهم من العهود والمواثيق في الكتاب لأنهم دارسون له لم يتركوه ولكن درسوه وضيعوا العمل به {والدار الآخرة} يعني وما في الدار الآخرة مما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته العاملين بما أمرهم الله به من كتابه، ولم يغيروا ولم يبدلوا ولم يرتشوا في الأحكام {خير للذين يتقون} يعني يتقون الله ويخافون عقابه {أفلا يعقلون} يعني أفلا يعقل هؤلاء الذين يرضون بعرض الدنيا أن ما في الآخرة خير وأبقى لأنها دار المتقين.

.تفسير الآيات (170- 172):

{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)}
{والذين يمسكون بالكتاب} يقال مسكت بالشيء وتمسكت به واستمسكت به وأمسكت به والمراد بالتمسك بالكتاب العمل بما فيه من إحلال حلاله وتحريم حرامه وإقامة حدوده والتمسك بأحكامه.
نزلت هذه الآية في الذين أسلموا من أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه لأنهم تمسكوا بالكتاب الأول ولم يحرفوه ولم يغيروه فأداهم ذلك المسك إلى الإيمان بالكتاب الثاني وهو القرآن {وأقاموا الصلاة} يعني وداوموا على إقامتها في مواقيتها وإنما أفردها بالذكر وإن كانت الصلاة داخلة في التمسك بالكتاب تنبيهاً على عظم قدرها وأنها من أعظم العبادات بعد الإيمان بالله وبرسوله {إنا لا نضيع أجر المصلحين} قوله عز وجل: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة} يعني واذكر يا محمد إذ قلعنا الجبل فرفعناه فوق بني إسرائيل كأنه ظلة يعني جعلناه فوقهم كالظلة والظلة كل ما علا الإنسان كالسقف ونحوه {وظنوا} أي علموا وأيقنوا {أنه واقع بهم} يعني الجبل {خذوا} يعني وقلنا لهم خذوا وإضمار القول كثير في القرآن وكلام العرب {ما آتيناكم} يعني التوراة {بقوة} يعني بجد واجتهاد {واذكروا ما فيه} يعني واعملوا بما فيه من الأحكام {لعلكم تتقون} قال أصحاب الأخبار: إن بني إسرائيل لما أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لما فيها من التكاليف الشاقة أمر الله عز وجل جبريل فرفع جبلاً عظيماً حتى صار على رؤوسهم كالظلة فلما نظروا إلى الجبل فوق رؤوسهم خرّوا ساجدين فسجد كل واحد منهم على خده وحاجبه الأيسر وجعل ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل خوفاً أن يسقط عليه ولذلك لا تسجد اليهود إلا على وجوههم الأيسر قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} الآية عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن قوله سبحانه وتعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} الآية قال سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله سبحانه وتعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار» أخرجه مالك في الموطأ وأبو داود والترمذي، وقال حديث حسن ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وعمر رجلاً.
قلت ذكر الطبري في بعض طرق هذا الحديث الرجل فقال عن مسلم بن يسار عن يعمر بن ربيعة عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما خلق الله سبحانه وتعالى آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان وبيصاً من نور ثم عرضهم على آدم فقال أي رب من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه فقال يا رب من هذا قال داود قال رب كم جعلت عمره قال ستين سنة قال يا رب زده من عمري أربعين سنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين جاءه ملك الموت فقال آدم أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال أو لم تعطيها ابنك داود؟ فجحد آدم فجحد ذريته ونسي آدم فأكل من الشجرة فنسيت ذريته وخطئ فخطئت ذريته» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وأما تفسير الآية فقوله سبحانه وتعالى: {وإذ أخذ ربك} يعني واذكر يا محمد إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم يعني من ظهور بني آدم وإنما لم يذكر ظهر آدم وإن كان الله سبحانه وتعالى أخرج جميع الذرية من ظهره لأن الله تعالى أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهر بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء فلذلك قال سبحانه وتعالى من بني آدم من ظهورهم فاستغنى عن ذكر ظهر آدم عليه السلام لما علم أنهم كلهم بنو آدم وأخرجوا من ظهره فترك ذكر ظهر آدم استغناء.
ثم للعلماء في تفسير هذه الآية مذهبان: أحدهما وهو مذهب أهل التفسير والأثر وظاهر ما جاءت به الراوايات عن السلف فيما روي عن ابن عباس من طرق كثيرة وروايات مختلفة رواها عنه الطبري بأسانيد، فمنها عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلاً وقال ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين» وعن ابن عباس في هذه الآية قال: مسح ربك ظهر آدم فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنعمان هذا الذي وراء عرفة وأخذ ميثاقهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا وعن ابن عباس أيضاً قال: إن أول ما أهبط الله آدم إلى الأرض أهبطه بدهناء أرض الهند فمسح ظهره فأخرج منه كل نسمة هو بارئها إلى يوم القيامة ثم أخذ عليهم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين زاد في رواية عنه: فجف القلم بما كان يوم القيامة، وفي رواية عنه قال: لما خلق الله آدم أخذ ميثاقه أنه ربه وكتب رزقه وأجله ومصائبه واستخرج ذريته كالذر وكتب أرزاقهم وآجالهم ومصائبهم وفي رواية عنه قال: إن الله عز وجل مسح صلب آدم فاستخرج كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة فأخذ منهم الميثاق أن يعبد وه ولا يشركوا به شيئاً وتكفّل لهم بالأرزاق ثم أعادهم في صلبه فلن تقوم الساعة حتى يولد كل من أعطي الميثاق يومئذ فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به نفعه الميثاق الأول ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يف به لم ينفعه الأول ومن مات صغيراً ولم يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الاول على الفطرة وروى الطبري بسنده عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس، فقال لهم ألست بربكم قالوا بلى؟ قالت الملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة {إنا كنا عن هذا غافلين}» وقال ابن عباس: أخرج ذرية آدم من ظهره فكلمهم الله وأنطقهم فقال ألست بربكم قالوا بلى ثم أعادها في صلبه فليس أحد من الخلق إلا وقد تكلم فقال ربي الله وإن القيامة لن تقوم حتى يولد من كان يومئذ أشهد على نفسه، وقال السدي: أخرج الله آدم من الجنة ولم يهبطه من السماء ثم إنه مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه كهيئة الذر بيضاء فقال ادخلوا الجنة برحمتي ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه كهيئة الذر سوداء فقال ادخلوا النار ولا أبالي فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال ألست بربكم قالوا بلى فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجهه التبعية زاد في رواية وذلك حيث يقول: {وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً} وقال محمد بن كعب القرظي: أقر له بالإيمان والمعرفة الأرواح قبل خلق أجسادها، وقال مقاتل: مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فأخرج منها ذرية بيضاء كهيئة الذر يتحركون ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منها ذرية سوداء كهيئة الذر يتحركون فقال يا آدم هؤلاء ذريتك ثم قال لهم ألست بربكم قالوا بلى فقال للبيض هؤلاء في الجنة برحمتي وهم أصحاب اليمين وقال للسود هؤلاء في النار ولا أبالي وهم أصحاب الشمال ثم أعادهم جميعاً في صلب آدم فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق جميعاً.
وروى أن الله سبحانه وتعالى قال لهم جميعاً. اعلموا أنه لا إله لكم غيري وأنا ربكم لا رب لكم غيري فلا تشركوا بي شيئاً فإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي وإني مرسل إليكم رسلاً يذكرونكم عهدي وميثاقي ومنزل عليكم كتباً فتكلموا جميعاً وقالوا شهدنا أنك ربنا لا رب لنا غيرك فأخذ بذلك مواثيقهم ثم كتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم فنظر إليهم آدم عليه السلام فرأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال رب هلا سويت بينهم فقال إني أحب أن أشكر فلما قررهم بتوحديه وأشهد بعضهم على بعض أعاده إلى صلبه فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ منه الميثاق.
وقال الزجاج: وجائز أن يكون الله سبحانه وتعالى جعل لأمثال الذر عقلاً وفهما تعقل به كما قال تبارك وتعالى في النملة {قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} وكما قال {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير} وقال ابن الأنباري مذهب أصحاب الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولادهم وهم صور كالذر وأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعه فاعترفوا بذلك وقبلوه وذلك بعد أن ركب فيهم عقولاً عرفوا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبال عقولاً حتى خوطبوا بقوله: {يا جبال أوبي معه} وكم جعل للبعير عقلاً حتى سجد للنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الشجرة حتى سمعت لأمره وانقادت ومعنى قوله: {ألست بربكم} على هذا التفسير قال الله تعالى للذرية {ألست بربكم} فهو إيجاب للربوبية عليهم قالوا بلى يعني قال الذرية بلى أنت ربنا فهو جواب منهم له وإقرار منهم له بالربوبية واعتراف على أنفسهم بالعبودية {شهدنا} فيه قولان:
أحدهما: أنهم لما أقروا له بالربوبية قال الله عز وجل للملائكة اشهدوا قالوا شهدنا على إقرارهم فعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله سبحانه وتعالى بلى لأن كلام الذرية تم وانقطع وقوله شهدنا كلام مستأنف.
والقول الثاني: إن قوله سبحانه وتعالى شهدنا من كلام الذرية والمعنى شهدنا على أنفسنا بهذا الإقرار وعلى هذا لا يحسن الوقف على بلى لتعلقه بما بعده.
وقوله سبحانه وتعالى: {أن تقولوا} وقرئ بالتاء على خطاب الذرية ومعناه لئلا تقولوا أيها الذرية {يوم القيامة إنا كنا عن هذا} يعني الميثاق {غافلين} وقرئ أن يقولوا بالياء على الغيبة ومعناه لئلا يقولوا أي الذرية إنا كنا عن هذا غافلين، والمذهب الثاني في معنى هذه الآية وهو مذهب أهل الكلام والنظر أنه سبحانه وتعالى أخرج الذرية وأنشأهم بعد أن كانوا نطفاً في أصلاب الآباء وهم أولاد بني آدم فأخرج الذرية إلى الدنيا على ترتيبهم في الوجود وأشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من العقول وأراهم عجائب خلقه وغرائب صنعه ودلائل وحدانيته فبهذا الإشهاد صاروا كأنهم قالوا: بلى وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم وذلك بما أظهر لهم من دلائل آياته وبراهينه التي تضطرهم إلى أن يعلموا أنه خالقهم وبارئهم وربهم ونافذ الحكم فيهم فلما عرفوا ذلك دعاهم ذلك إلى التصديق بوحدانيته وربوبيته فقالوا بلى شهدنا على أنفسنا أنك أنت ربنا وخالقنا فعلى هذا القول يكون قولهم بلى شهدنا على أنفسنا على المجاز لا على الحقيقة وهذا النوع من المجاز الاستعارة مشهور في كلام العرب فكل من بلغ وعقل فقد أخذ عليه الميثاق بما جعل فيه من السبب الذي يؤخذ به الميثاق وهو العقل والتكليف فيكون معنى الآية وإذ يأخذ ربك من بني ويشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من العقل الذي يكون به الفهم والتكليف الذي به يترتب على صاحبه الثواب والعقاب يوم القيامة.
فإن قلت: فما المختار من هذين المذهبين في تفسير هذه الآية؟
قلت: المذهب الأول هو المختار لأنه مذهب جمهور المفسرين من السلف وورد الحديث بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت إذا كانت المختار في تفسير هذه الآية هو مذهب السلف في ذلك وأن الله تعالى أخرج الذرية من ظهر آدم لأخذ الميثاق عليهم كما ورد في الحديث أيضاً فكيف يحمل تفسير ألفاظ هذه الآية على هذا القول؟
قلت: قد صحَّ الحديث بان الله مسح ظهر آدم فأخرج ذريته وأخذ عليهم الميثاق ولا منافاة بين الآية والحديث كما تقدم في تفسير ألفاظ الآية من أن الله أخرج ذرية آدم من ظهره على سبيل التوالد بعضهم من بعض كما في الخارج وكلهم بأجمعهم من ظهر آدم الذي هو أصلهم فبهذا الطريق أمكن الجمع بين الآية والحديث، إذ ليس في معنى ألفاظ الآية مايدل على بطلان ذلك ونفيه وقد ورد الحديث بثوبت ذلك وصحته فوجب المصير إليه والأخذ به جمعاً بين الآية والحديث وحكى الواحدي عن صاحب النظم أنه قال: ليس بين قوله إن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته وبين الآية اختلاف بحمد الله لأنه تعالى إذ أخرجهم من ظهر آدم فقد أخرجهم من ظهور ذريته لأن ذرية آدم ذرية كذرية بعضهم من بعض قال وتحصل الفائدة بهذا الفصل بأنه تعالى أثبت الحجة على كل منفوس ممن بلغ ومن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم وزاد على من بلغ منهم بالحجة بالآيات والدلائل التي نصبها بالرسل المنفذة إليهم مبشرين ومنذرين وبالمواعظ وقال غيره: فائدة أخذ الميثاق عليها في القدم أن من مات منهم صغيراً أدخل الجنة بإقراره بالميثاق الأول وهذا على قول من يقول إن أطفال المشركين يدخلون الجنة إذا ماتوا صغاراً فأما من لا يحكم لهم بالجنة فإنه يقول من كان من أهل الشقاوة من الذرية السوداء وإنما أقروا بالمعرفة كرهاً فلم يغن عنهم ذلك شيئاً ومن بلغ وعقل لم يغن عنه إقراره بالميثاق الأول شيئاً حتى يؤمن ويصدق عند بلوغه وعقله بأن الله ربه وخالقه ويصدق رسله فيما جاؤوا به من عنده وإنما فعل ذلك لئلا يقول الكفار إنا كنا عن هذا الميثاق أو الإيمان بأن الله ربنا غافلين أو لئلا تقول أخلافهم إنما أشرك آباؤنا ونحن نسير على آثارهم ظناً منهم أن الحق ما كانوا عليه.
فإن قلت: إن ذلك الميثاق لا يذكره أحد اليوم فكيف يكون حجة عليهم اليوم أو فكيف يذكرونه يوم القيامة حتى يحتج عليهم به.
قلت: لما أخرج الذرية من صلب آدم ركب فيهم العقول وأخذ عليهم الميثاق فلما أعيدوا إلى صلب آدم بطل ما ركب فيهم فتوالدوا ناسين لذلك الميثاق لاقتضاء الحكمة الإلهية نسيانهم له ثم ابتدأهم بالخطاب على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام وأصحاب الشرائع فقام ذلك مقام الذكر، إذ الدار دار تكليف وامتحان ولو لم ينسوه لانتفت المحنة والابتلاء، والتكليف، فقامت الحجة عليهم لإمدادهم بالرسل وإعلامهم بجريان أخذ الميثاق عليهم وبذلك قامت الحجة عليهم أيضاً يوم القيامة لإخبار الرسل إياهم بذلك الميثاق في الدنيا فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد ولزمتهم الحجة ولم تسقط الحجة عنهم بنسيانهم وعدم حفظهم بعد أخبار الصادق صاحب الشرع والمعجزات الباهرات.